الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَالِ، فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قَوْلِكَ: مَنْ قَرَأَ؟ فَتَقُولُ: زَيْدٌ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْفِعْلِ، عَلَى جَعْلِ الْجَوَابِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً. قَالَ: وَإِنَّمَا قَدَّرْتُهُ كَذَلِكَ، لَا مُبْتَدَأً، مَعَ احْتِمَالِهِ، جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْأَجْوِبَةِ إِذَا قَصَدُوا تَمَامَهَا، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} (يس: 78- 79). وَمِثْلُهُ: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزُّخْرُفِ: 9) {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (الْمَائِدَةِ: 4) فَلَمَّا أَتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ مَعَ فَوَاتِ مُشَاكَلَةِ السُّؤَالِ عُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ أَوَّلًا أَوْلَى. انْتَهَى. وَمِمَّا رُجِّحَ بِهِ أَيْضًا تَقْدِيرُ الْفِعْلِ أَنَّهُ حَيْثُ صَرَّحَ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ، وَالتَّشَاكُلُ لَيْسَ وَاجِبًا، بَلِ اللَّائِقُ كَوْنُ زَيْدٍ فَاعِلًا، أَيْ قَرَأَ زَيْدٌ، أَوْ خَبَرًا أَيِ الْقَارِئُ زَيْدٌ لَا مُبْتَدَأَ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأُولَى: التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَوْ حَذْفُهُ، وَهَلْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَجْوَدُ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلِ الْأَكْثَرُ الْحَذْفُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (الْمَائِدَةِ: 4) {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزُّخْرُفِ: 9) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79) فَكَانَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمُرَحِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (الْبَقَرَةِ: 189) مِنْ أَنَّهُمْ أُجِيبُوا بِغَيْرِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ لِنُكْتَةٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ: مَنْ جَاءَ؟ فَقُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَلَوْ قُلْتَ: " زَيْدٌ "، كَانَ نَصًّا فِي أَنَّهُ جَوَابٌ، وَفِي الْعُمُومِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مَنْ، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: الَّذِي جَاءَ زَيْدٌ، فَيُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَاتَانِ الْفَائِدَتَانِ إِنَّمَا حَصَلَتَا مِنَ الْحَذْفِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غَافِرٍ: 16) إِذِ التَّقْدِيرُ: الْمُلْكُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الْجَوَابِ، إِذِ الْمَعْنَى لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ. وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} (الْمُؤْمِنُونَ: 84) {لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الْأَنْعَامِ: 12) {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (سَبَأٍ: 24). وَمِنَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}. وَلَعَلَّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 86) وَقَوْلُهُ: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزُّخْرُفِ: 9) لِأَنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَطِّلَةً وَدَهْرِيَّةً، فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَقَوْلُهُ: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (التَّحْرِيمِ: 3) لِأَنَّهَا اسْتَغْرَبَتْ حُصُولَ النَّبَأِ الَّذِي أَسَرَّتْهُ. وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ: أَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ زَيْدًا فَاعِلٌ، إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ " مَنْ قَامَ "؟ عَلَى تَقْدِيرِ: قَامَ زَيْدٌ، وَالَّذِي يُوجِبُهُ جَمَاعَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لِوَجْهَيْنِ. أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْجُمْلَةِ الْمَسْئُولِ بِهَا فِي الِاسْمِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} (النَّحْلِ: 30) فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النَّحْلِ: 34) لِأَنَّهُمْ لَوْ طَابَقُوا لَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِنْزَالِ وَهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ بِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّبْسَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ السَّائِلِ إِلَّا فِيمَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَرَضِ السَّائِلِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ فَحَرِيٌّ أَنْ يَقَعَ فِي الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْمِلَاتِ وَالْفَضَلَاتِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ قَامَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَوْ عَمْرٌو قَامَ. وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 62- 63) فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَاعِلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ الْجَوَابُ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ بَلْ كَانَ عَنِ الشَّخْصِ الْكَاسِرِ لَهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا بَعْدَ بَلْ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِلْهَمْزَةِ، فَإِنَّ بَلْ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُصَدَّرَ بِهَا الْكَلَامُ، وَلِأَنَّ جَوَابَ الْهَمْزَةِ بِنَعَمْ، أَوْ بِلَا، فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا، وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ مُقَدَّرٌ، دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَقَالَ: مَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا تَقْدِيرَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ وَاقِعًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ: الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا الْمُقَدَّرَةِ، وَالْمَعْطُوفَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا بَعْدَ بَلْ. قُلْتُ: وَإِنَّهُ لَازِمٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا أَنَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، مَعَ زِيَادَتِهِ بِالْخُلْفِ عَمَّا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنَ التَّعْرِيضِ، إِذْ مَنْطُوقُهَا نَفْيُ الْفِعْلِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَفْهُومُهَا إِثْبَاتُ حُصُولِ التَّكْسِيرِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَكُونُ مَخْلَصًا عَنِ الْخُلْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ فِي التَّعْرِيضِ مَخْلَصًا عَنِ الْكَذِبِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ إِلَى الصَّنَمِ حَقِيقَةً، بَلْ قَصْدُهُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ لِيَحْصُلَ غَرَضُهُ مِنَ التَّبْكِيتِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُثْبِتٌ مُعْتَرِفٌ لِنَفْسِهِ بِالْفِعْلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ غَضِبَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، غَيْرَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانُوا لِأَكْبَرِهَا أَشَدَّ تَعْظِيمًا، كَانَ مِنْهُ أَشَدَّ غَضَبًا، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَكْسِيرِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَامِلًا لِلْقَوْمِ عَلَى الْأَنَفَةِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخُصُّوهُ بِزِيَادَةِ التَّعْظِيمِ، وَمُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَسِّرَةَ مُتَمَكِّنٌ فِيهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ، مُنَادًى عَلَيْهَا بِالْفَنَاءِ، مُنْسَلِخَةٌ عَنْ رِبْقَةِ الدَّفْعِ، فَضْلًا عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ حَقِيقٌ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ لَا التَّوْقِيرِ، وَالْفِعْلُ يُنْسَبُ إِلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَالْمَصْدَرِ، وَالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَالسَّبَبِ، إِذْ لِلْفِعْلِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقَاتٌ وَمُلَابَسَاتٌ يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ بَادِرَةَ تَعْظِيمِ الْأَكْبَرِ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ بَاقِي الْأَصْنَامِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا هَذَا شَأْنَهُ، يُصَانُ أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُ مِنْ دُونِهِ فِي التَّبْجِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَكْسِيرِهَا مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْيَرُ وَعَلَى تَمْحِيقِ الْأَكْبَرِ أَقْدَرُ. وَحَرِيٌّ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْكَبِيرُ هُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَكْسِيرِ الصَّغِيرِ، صَحَّتِ النِّسْبَةُ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَلَفَ، وَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، إِذْ وَضَعْتُمُ الْعِبَادَةَ بِغَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ فَالْأَكْثَرُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْجَوَابِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا، فَوَجَبَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ لِضَعْفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُلْفَظَ بِهِ. وَهُوَ مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} (النُّورِ: 36- 37) فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ، فِيمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقِيلَ: يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ، وَنَظِيرُهُ: ضُرِبَ زَيْدٌ، وَعَمْرٌو عَلَى بِنَاءِ " ضُرِبَ " لِلْمَفْعُولِ، نَعَمُ الْأَوْلَى ذِكْرُ الْفِعْلِ لِمَا ذُكِرَ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظٍ قَالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ، نَحْوُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} الْآيَاتِ (الذَّارِيَاتِ: 24- 25) كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ لَهُمْ؟ قَالَ: {أَلَا تَأْكُلُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 27) وَلِذَلِكَ قَالُوا: " لَا تَخَفْ ". وَعَلَى هَذِهِ السِّيَاقَةِ تَخْرُجُ قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الشُّعَرَاءِ: 23- 24) إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 31). وَعَلَى هَذَا كُلُّ كَلَامٍ جَاءَ فِيهِ لَفْظَةُ " قَالَ " هَذَا الْمَجِيءَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْضَحُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ} (الذَّارِيَاتِ: 31) فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 31). وَمِثْلُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} (يس: 13) إِلَى قَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} (يس: 21)
فَائِدَةٌ الْأَسْئِلَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْقُرْآنِ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا. قَالَ الْإِمَامُ: ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (الْبَقَرَةِ: 186) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (الْبَقَرَةِ: 189) وَالْبَاقِي سِتَّةٌ فِيهَا، وَالتَّاسِعَةُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} (الْآيَةَ: 4) فِي الْمَائِدَةِ. وَالْعَاشِرَةُ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (الْأَنْفَالِ: 1). الْحَادِي عَشَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} (الْإِسْرَاءِ: 85). الثَّانِي عَشَرَ فِي الْكَهْفِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} (الْآيَةَ: 83). الثَّالِثَ عَشَرَ فِي طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (الْآيَةَ: 105). الرَّابِعَ عَشَرَ فِي النَّازِعَاتِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (الْآيَةَ: 42). وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبٌ: اثْنَانِ مِنْهَا فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} (الْبَقَرَةِ: 186) فَإِنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الذَّاتِ، وَقَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (الْبَقَرَةِ: 189) سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ وَاثْنَانِ فِي الْآخَرِ فِي شَرْحِ الْمَعَادِ، وَقَوْلُهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (طه: 105) وَقَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (الْأَعْرَافِ: 187). وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أَوَّلُهُمَا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) (الْحَجِّ: 1) فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ، وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ، وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ، ثُمَّ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) الَّذِي فِي الْأَوَّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَالَّذِي فِي الثَّانِي يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ (يَسْأَلُونَكَ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِغَيْرِ وَاوٍ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (الْبَقَرَةِ: 189) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (الْبَقَرَةِ: 217) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (الْبَقَرَةِ: 219) ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْوَاوِ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (الْبَقَرَةِ: 219) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} (الْبَقَرَةِ: 220) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (الْبَقَرَةِ: 222). قُلْنَا: لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْحَوَادِثِ؛ الْأَوَّلُ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا عَنِ الْحَوَادِثِ، وَالْآخَرُ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (الْبَقَرَةِ: 186) وَعَادَةُ السُّؤَالِ يَجِيءُ جَوَابُهُ فِي الْقُرْآنِ بِـ " قُلْ " نَحْوَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (الْبَقَرَةِ: 189) وَنَظَائِرِهِ. قِيلَ: حُذِفَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَاسِطَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاعِي وَاسِطَةً، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الدُّعَاءِ تَجِيءُ الْوَاسِطَةُ. الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ دُونَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الْأَنْعَامِ: 22) وَقَعَتْ إِضَافَةُ الشَّرِيكِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ، لِأَنَّ الْقَدِيمَ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَهُ. وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} (الْبَقَرَةِ: 165). وَقَوْلِهِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدُّخَانِ: 49). وَقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هُودٍ: 87) أَيْ بِزَعْمِكَ وَاعْتِقَادِكَ. وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الْحِجْرِ: 6). وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصَّافَّاتِ: 147). وَقَوْلِهِ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (الْبَقَرَةِ: 74). وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (النَّحْلِ: 77) أَيْ أَنَّكُمْ لَوْ عَلِمْتُمْ قَسَاوَةَ قُلُوبِكُمْ لَقُلْتُمْ إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ إِنَّهَا فَوْقَهَا فِي الْقَسْوَةِ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ سُرْعَةَ السَّاعَةِ، لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ فِي سُرْعَةِ الْوُقُوعِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ عِنْدَكُمْ. وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى قَوْمٍ هُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَشَكَكْتُمْ، وَقُلْتُمْ: مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} (الشُّعَرَاءِ: 177)، نَحْوُهُ مِمَّا كَانَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خِلَافَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى طَمَعٍ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الرُّومِ: 27) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَعْتَادُهُ الْمَخْلُوقُونَ فِي أَنَّ الْإِعَادَةَ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ مِنَ الْبُدَاءَةِ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَيَكُونُ الْبَعْثُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْإِنْشَاءِ. وَحَكَى الْإِمَامُ الرَّازِّيُّ فِي مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْعِبْرَةِ عِنْدَكُمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلْعَدَمِ: كُنْ فَخَرَجَ تَامًّا كَامِلًا بِعَيْنَيْهِ، وَأُذُنَيْهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَمَفَاصِلِهِ، فَهَذَا فِي الْعِبْرَةِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِشَيْءٍ قَدْ كَانَ: عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِبْرَتِكُمْ لَا أَنَّ شَيْئًا يَكُونُ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي " عَلَيْهِ " يَعُودُ لِلْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ فَيَقُومُونَ، وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا نُطَفًا، ثُمَّ عَلَقًا، ثُمَّ مُضَغًا، إِلَى أَنْ يَصِيرُوا رِجَالًا، وَنِسَاءً. وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} (الزُّخْرُفِ: 49) أَيْ: يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ الْكَامِلُ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا مِنْهُمْ لَهُ، لِأَنَّ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ عَظِيمًا وَصَنْعَةً مَمْدُوحَةً. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِي غَلَبَنَا بِسِحْرِهِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ أَيْ: غَلَبْتُهُ بِالْخُصُومَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَعْيِيبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسِّحْرِ، وَلَمْ يُنَافِسْهُمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 24) جِيءَ بِإِنَّ الَّتِي لِلشَّكِّ وَهُوَ وَاجِبٌ دُونَ إِذِ الَّتِي لِلْوُجُوبِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ مُعَارَضَتَهُ فِيهَا لِلتَّهَكُّمِ كَمَا يَقُولُهُ الْوَاثِقُ بِغَلَبَتِهِ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ، إِنْ غَلَبْتُكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبُهُ تَهَكُّمًا بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (النَّحْلِ: 17) وَالْمُرَادُ بِـ " مَنْ لَا يَخْلُقُ " الْأَصْنَامُ، وَكَانَ أَصْلُهُ كَمَا لَا يَخْلَقُ، لِأَنَّ مَا لِمَنْ لَا يَعْقِلُ بِخِلَافِ مَنْ، لَكِنْ خَاطَبَهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً، وَعَبَدُوهَا فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى أُولِي الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ لِلْأَصْنَامِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} (الْأَعْرَافِ: 195) الْآيَةَ، أَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ أُولِي الْعَقْلِ كَذَا قِيلَ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُمْ خَطَأً وَضَلَالَةً، فَالْحُكْمُ يَقْتَضِي أَنْ يَنْزِعُوا عَنْهُ وَيُقْلِعُوا لَا أَنْ يُبْقُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْغَرَضُ مِنَ الْخِطَابِ الْإِيهَامُ، وَلَوْ خَاطَبَهُمْ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ فَقَالَ: كَمَا لَا يَخْلُقُ، لَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجَمَادِ. وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ بِعَسَى، وَلَعَلَّ، فَإِنَّهَا عَلَى بَابِهَا فِي التَّرَجِّي، وَالتَّوَقُّعِ، وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ، قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) اذْهَبَا إِلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ عِنْدَكُمَا، فَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَالِمٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: إِنَّهَا تَعْلِيْلَةٌ أَيْ: كَيْ يَتَذَكَّرَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ. وَمِنْهُ التَّعَجُّبُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ، نَحْوُ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (الْبَقَرَةِ: 175) أَيْ هُمْ أَهْلٌ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ، وَمِنْ طُولِ مُكْثِهِمْ فِي النَّارِ وَنَحْوُهُ: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عَبَسَ: 17) وَ {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (الْكَهْفِ: 26). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَعِيْمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَقَاءِ أَهْلِ النَّارِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (هُودٍ: 107) مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَزُولَانِ لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَصَدُوا الدَّوَامَ أَنْ يُعَلِّقُوا بِهِمَا فَجَاءَ الْخِطَابُ عَلَى ذَلِكَ
يَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّهَكُّمُ، مَعْنَاهُ وَوُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ عَلَى ضِدِّ مُقْتَضَى الْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدُّخَانِ: 49). وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرَّعْدِ: 11) مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ مِنْ أَمْرِ اللَّهَ شَيْءٌ. التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ بِإِضَافَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ بِيَدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الْفَاتِحَةِ: 7) ثُمَّ قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الْفَاتِحَةِ: 7) وَلَمْ يَقُلْ: غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلِهِ: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (آلِ عِمْرَانَ: 26) وَلَمْ يَقُلْ: وَبِيَدِكَ الشَّرُّ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا بِيَدِهِ لَكِنَّ الْخَيْرَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَةَ مَحَبَّةٍ وَرِضًا، وَالشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَى صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ بَلْ كُلُّهَا كَمَا لَا نَقْصَ فِيهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَهُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} (يُوسُفَ: 34) فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ صَرَفَهُ، وَلَمَّا ذَكَرَ السِّجْنَ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (يُوسُفَ: 35) وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ السَّجْنَ لَهُ، وَأَضَافَ مَا مِنْهُ الرَّحْمَةُ إِلَيْهِ، وَمَا مِنْهُ الشِّدَّةُ إِلَيْهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذَا {مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 80) وَلَمْ يَقُلْ: أَمْرَضَنِي. وَتَأَمَّلْ جَوَابَ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا فَعَلَهُ حَيْثُ قَالَ فِي إِعَابِةِ السَّفِينَةِ: {فَأَرَدْتُ} (الْكَهْفِ: 79) وَقَالَ فِي الْغُلَامِ: {فَأَرَدْنَا} (الْكَهْفِ: 81) وَفِي إِقَامَةِ الْجِدَارِ {فَأَرَادَ رَبُّكَ} (الْكَهْفِ: 82). قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْمَنْصُورِ فِي كِتَابِ " فَكُّ الْأَزْرَارِ عَنْ عُنُقِ الْأَسْرَارِ " لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ الْعَيْبِ لِلسَّفِينَةِ نَسَبَهُ لِنَفْسِهِ أَدَبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَقَالَ: " فَأَرَدْتُ ". وَلَمَّا كَانَ قَتْلُ الْغُلَامِ مُشْتَرَكَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمَحْمُودِ، وَالْمَذْمُومِ، اسْتَتْبَعَ نَفْسَهُ مَعَ الْحَقِّ، فَقَالَ فِي الْإِخْبَارِ بِنُونِ الِاسْتِتْبَاعِ، لِيَكُونَ الْمَحْمُودُ مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ رَاحَةُ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ مِنْ كُفْرِهِ، عَائِدًا عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَالْمَذْمُومُ ظَاهِرًا- وَهُوَ قَتْلُ الْغُلَامِ بِغَيْرِ حَقٍّ- عَائِدًا عَلَيْهِ. وَفِي إِقَامَةِ الْجِدَارِ كَانَ خَيْرًا مَحْضًا، فَنَسَبَهُ لِلْحَقِّ، فَقَالَ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ التَّوْحِيدِيِّ مِنَ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الْكَهْفِ: 82). وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا أَفْرَدَ أَوَّلًا فِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّهَا لَفْظُ غَيْبٍ، وَتَأَدَّبَ بِأَنْ لَمْ يُسْنِدِ الْإِرَادَةَ فِيهَا إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا تَأَدَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 80) فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ قَبْلُ وَبَعْدُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ، إِذْ هُوَ مَعْنَى نَقْصٍ وَمَعَابَةٍ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَهَذَا النَّوْعُ مُطَّرِدٌ فِي فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ كَثِيرًا، أَلَا تَرَى إِلَى تَقْدِيمِ فِعْلِ الْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصَّفِّ: 5) وَتَقْدِيمِ فِعْلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (التَّوْبَةِ: 18) وَإِنَّمَا قَالَ الْخَضِرُ فِي الثَّانِيَةِ: (فَأَرَدْنَا) لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ الصَّالِحُونَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَتَمَنَّى التَّبْدِيلَ لَهُمَا، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ فِي الثَّالِثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ غَيْبٌ مِنَ الْغُيُوبِ، فَحَسُنَ إِفْرَادُ هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (الْجِنِّ: 10) فَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي إِرَادَةِ الشَّرِّ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ، وَأَضَافُوا إِرَادَةَ الرُّشْدِ إِلَيْهِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي خِطَابِهِ لَمَّا اجْتَمَعَ أَبُوهُ وَإِخْوَتُهُ: {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} (يُوسُفَ: 100) وَلَمْ يَقُلْ: مِنَ الْجُبِّ مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ أَعْظَمُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ. وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ السَّجْنِ لِوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ذِكْرِ الْجُبِّ تَجْدِيدَ فِعْلِ إِخْوَتِهِ، وَتَقْرِيعَهِمْ بِذَلِكَ، وَتَقْلِيعَ نُفُوسِهِمْ، وَتَجْدِيدَ تِلْكَ الْغَوَائِلِ، وَتَخْيِيبَ النُّفُوسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجُبِّ إِلَى الرِّقِّ وَمِنَ السِّجْنِ إِلَى الْمُلْكِ، وَالنِّعْمَةُ هُنَا أَوْضَحُ انْتَهَى. وَأَيْضًا وَلِأَنَّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بَوْنًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: قِصَرُ الْمُدَّةِ فِي الْجُبِّ وَطُولُهَا فِي السِّجْنِ، وَأَنَّ الْجُبَّ كَانَ فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَلَا يَعْقِلُ فِيهَا الْمُصِيبَةَ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ كَتَأْثِيرِهَا فِي حَالِ الْكِبَرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ أَمْرَ الْجُبِّ كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا لِأَجْلِ الْحَسَدِ، وَأَمْرُ السِّجْنِ كَانَ لِعُقُوبَةِ أَمْرٍ دِينِيٍّ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَكَانَ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 187) وَقَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (النِّسَاءِ: 24) فَحَذَفَ الْفَاعِلَ عِنْدَ ذِكْرِ الرَّفَثِ وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَصَرَّحَ بِهِ عِنْدَ إِحْلَالِ الْعَقْدِ. وَقَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الْمَائِدَةِ: 3) فَحَذَفَ الْفَاعِلَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَقَالَ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الْأَنْعَامِ: 151). وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (الْبَقَرَةِ: 275) وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي كِتَابِ " الْإِعْلَامُ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} (مَرْيَمَ: 52) وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} (الْقَصَصِ: 44) وَالْمَكَانُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ قَالَ: وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ أَنَّ الْأَيْمَنَ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْيُمْنِ، وَهُوَ الْبَرَكَةُ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْمَادَّةِ، فَلَمَّا حَكَاهُ عَنْ مُوسَى فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ أَتَى بِلَفْظِهِ، وَلَمَّا خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الْغَرْبِيِّ لِئَلَّا يُخَاطِبَهُ، فَيَسْلُبَ عَنْهُ فِيهِ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنَ الْيُمْنِ، أَوْ مُشَارِكًا فِي الْمَادَّةِ رِفْقًا بِهِمْ فِي الْخِطَابِ، وَإِكْرَامًا لَهُمَا. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ مُوَضِّحًا. وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} (الْأَنْبِيَاءِ: 87) الْآيَةَ، أَضَافَهُ هُنَا إِلَى النُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (الْقَلَمِ: 42) وَسَمَّاهُ هُنَا ذَا النُّونِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلَكِنْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ فِي حُسْنِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَالَيْنِ، وَتَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّهُ حِينَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَالَ: (ذَا النُّونِ) وَلَمْ يَقُلْ: " صَاحِبُ الْحُوتِ ". وَالْإِضَافَةُ بِـ (ذُو) أَشْرَفُ مِنَ الْإِضَافَةِ " بِصَاحِبِ "، ثُمَّ أَضَافَهُ إِلَى النُّونِ، وَهُوَ الْحُوتُ، وَلَفْظُ النُّونِ أَشْرَفُ لِوُجُودِ هَذَا الِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، نَحْوُ: (ن وَالْقَلَمِ)، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ مَا يُشَرِّفُهُ. فَالْتَفِتْ إِلَى تَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ يَلُحْ لَكَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّدَبُّرَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ مُفْتَرَضٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (النَّمْلِ: 27) خَاطَبَهُ بِمُقَدِّمَةِ الصِّدْقِ مُوَاجَهَةً، وَلَمْ يُقَدِّمِ الْكَذِبَ، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى الصِّدْقِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَمَتَى كَانَ يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ، قُدِّمَ الصِّدْقُ، ثُمَّ لَمْ يُوَاجِهْهُ بِالْكَذِبِ، بَلْ أَدْمَجَهُ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ أَدَبًا فِي الْخِطَابِ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (يُوسُفَ: 26- 27). وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} (غَافِرٍ: 28). وَهَذَانِ الْمِثَالَانِ مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِلْخَصْمِ لِيَدْخُلَ فِي الْمَقْصُودِ بِأَلْطَفِ مَوْعُودٍ
مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ: حَيْثُ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ وَالْعَذَابَ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَنْ يَبْدَأَ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (الْمَائِدَةِ: 18) {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} (فُصِّلَتْ: 43) وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَوَاضِعُ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ فِيهَا تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعَذَابِ تَرْهِيبًا وَزَجْرًا. مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْمَائِدَةِ: 40) لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالْمُحَارِبِينَ، وَالسُّرَّاقِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعَذَابِ، لِهَذَا خَتَمَ آيَةَ السَّرِقَةِ بِـ " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " وَفِيهِ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَخَتَمَهَا بِالْقُدْرَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْهِيبِ لِأَنَّ مَنْ تَوَعَّدَهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ، كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 21) لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ حِكَايَةِ إِنْذَارِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ. وَمِثْلُهَا: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا} (الْعَنْكَبُوتِ: 19- 20) إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْعَنْكَبُوتِ: 20) وَبَعْدَهَا: {بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (الْعَنْكَبُوتِ: 22). وَمِنْهَا فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الْأَنْعَامِ: 165) لِأَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ كُلَّهَا مُنَاظَرَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَوَعِيدِهِمْ خُصُوصًا، وَفِي آخِرِهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِيَسِيرٍ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الْأَنْعَامِ: 159) الْآيَةَ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} (الْأَنْعَامِ: 164) الْآيَةَ، وَهُوَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ، وَإِفْسَادٌ لِدِينِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (الْأَنْعَامِ: 165) فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعِقَابِ تَرْهِيبًا لِلْكُفَّارِ، وَزَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّفَرُّقِ، وَزَجْرًا لِلْخَلَائِقِ عَنِ الْجَوْرِ فِي الْأَحْكَامِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الْأَعْرَافِ: 167) لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ مَعْصِيَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَتَعْذِيبِهِ إِيَّاهُمْ، فَتَقْدِيمُ الْعَذَابِ مُنَاسِبٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَآيَةِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ أَتَى هُنَا بِاللَّامِ، فَقَالَ: (لَسَرِيعُ الْعِقَابِ) دُونَ هُنَاكَ، لِأَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ التَّوْكِيدَ، فَأَفَادَتْ هُنَا تَأْكِيدَ سُرْعَةِ الْعِقَابِ، لِأَنَّ الْعِقَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا عِقَابٌ عَاجِلٌ، وَهُوَ عِقَابُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذُّلِّ وَالنِّقْمَةِ، وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْمَسْخِ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (الْأَعْرَافِ: 167) فَتَأْكِيدُ السُّرْعَةِ أَفَادَ بَيَانَ التَّعْجِيلِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ بِخِلَافِ الْعِقَابِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ آجِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الْأَنْعَامِ: 164) فَاكْتَفَى فِيهِ بِتَأْكِيدِ (إِنَّ) وَلَمَّا اخْتَصَّتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ الْعَذَابِ عَاجِلًا اخْتَصَّتْ بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ لَفْظًا بِـ (إِنَّ)، وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ يُنَاسِبُهُ التَّقْدِيمُ، وَالتَّأْخِيرُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا تَفْصِيلِيٌّ، وَهُوَ الِاسْتِقْرَاءُ فَانْظُرْ أَيَّ آيَةٍ تَجِدْ فِيهَا مُنَاسِبًا لِذَلِكَ، وَالثَّانِي إِجْمَالِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ، وَهَذَانِ دَلِيلَانِ عَامَّانِ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (الْأَنْعَامِ: 147) وَلَمْ يَقُلْ: ذُو عُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ نَفْيًا لِلِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ، مَعْنَاهُ: لَا تَغْتَرُّوا بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَذَابُهُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (مَرْيَمَ: 45) وَقَدْ سَبَقَتْ
فَائِدَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْخِطَابِ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَالْحُدُوثِ، وَالِاسْمَ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالثُّبُوتِ، وَلَا يَحْسُنُ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (الْكَهْفِ: 18) فَلَوْ قِيلَ: (يَبْسُطُ) لَمْ يُؤَدِّ الْغَرَضَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِمُزَاوَلَةِ الْكَلْبِ الْبَسْطَ، وَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، فَبَاسِطٌ أَشْعَرُ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ. وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} (فَاطِرٍ: 3) لَوْ قِيلَ: " رَازِقُكُمْ " لَفَاتَ مَا أَفَادَهُ الْفِعْلُ مِنْ تَجَدُّدِ الرِّزْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْحَالُ فِي صُورَةِ الْمُضَارِعِ، مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي يُفِيدُهُ مَاضٍ، كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ يَضْرِبُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} (يُوسُفَ: 16) إِذِ الْمُرَادُ أَنْ يُرِيدَ صُورَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ، وَأَنَّهُمْ آخِذُونَ فِي الْبُكَاءِ يُجَدِّدُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَى صَرِيحِ الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ. وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ لِمَ قِيلَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} (الْبَقَرَةِ: 274) وَلَمْ يَقُلِ الْمُنْفِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقِيلَ كَثِيرًا: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُتَّقُونَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّفَقَةِ أَمْرٌ فِعْلِيٌّ شَأْنُهُ الِانْقِطَاعُ وَالتَّجَدُّدُ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ لَهُ حَقِيقَةً تَقُومُ بِالْقَلْبِ يَدُومُ مُقْتَضَاهَا، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا، كَذَلِكَ التَّقْوَى وَالْإِسْلَامُ، وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ، وَالْهُدَى، وَالضَّلَالُ، وَالْعَمَى وَالْبَصَرُ، فَمَعْنَاهَا أَوْ مَعْنَى وَصْفِ الْجَارِحَةِ، كُلُّ هَذِهِ لَهَا مُسَمَّيَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ مَجَازِيَّةٌ تَسْتَمِرُّ، وَآثَارٌ تَتَجَدَّدُ وَتَنْقَطِعُ، فَجَاءَتْ بِالِاسْتِعْمَالَيْنِ، إِلَّا أَنَّ لِكُلِّ مَحَلٍّ مَا يَلِيقُ بِهِ، فَحَيْثُ يُرَادُ تُجَدُّدُ حَقَائِقِهَا، أَوْ آثَارِهَا، فَالْأَفْعَالُ، وَحَيْثُ يُرَادُ ثُبُوتُ الِاتِّصَافِ بِهَا فَالْأَسْمَاءُ، وَرُبَّمَا بُولِغَ فِي الْفِعْلِ فَجَاءَ تَارَةً بِالصِّيغَةِ الِاسْمِيَّةِ، كَالْمُجَاهِدِينَ، وَالْمُهَاجِرِينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ وَالصِّفَةِ، هَذَا مَعَ أَنَّ لَهَا فِي الْقُلُوبِ أُصُولًا، وَلَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهَا الْتِصَاقٌ قَوَّى هَذَا التَّرْكِيبَ، إِذِ الْقَلْبُ فِيهِ جِهَادُ الْخَوَاطِرِ، وَعَقْدُ الْعَزَائِمِ عَلَى فِعْلِ الْجِهَادِ، وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ هِجْرَانُ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ، وَعَقْدٌ عَلَى فِعْلِ الْمُهَاجَرَةِ، كَمَا فِيهِ عَقْدٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَحَيْثُ يَسْتَمِرُّ الْمُعَاهَدُ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَانْظُرْ هُنَا إِلَى لَطِيفَةٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَفْعَلَ إِلَّا مُجَازَاةً، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْكُرَ الِاتِّصَافَ بِهِ، لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِي تَرَاكِيبِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (إِبْرَاهِيمَ: 27) وَقَالَ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا} (الْحَجِّ: 54) {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرَّعْدِ: 7). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (الْقَصَصِ: 59)، فَإِنَّ الْإِهْلَاكَ نَوْعُ اقْتِدَارٍ بَيِّنٍ، مَعَ أَنَّ جِنْسَهُ مَقْضِيٌّ بِهِ عَلَى الْكُلِّ، عَالِينَ وَسَافِلِينَ، لَا كَالضَّلَالِ الَّذِي جَرَى مَجْرَى الْعِصْيَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 201) لِأَنَّ الْبَصَرَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْمُتَّقِي، وَعَيْنُ الشَّيْطَانِ رُبَّمَا حُجِبَتْ فَإِذَا تَذَكَّرَ رَأَى الْمَذْكُورَ، وَلَوْ قِيلَ: يُبْصِرُونَ لَأَنْبَأَ عَنْ تَجَدُّدِ وَاكْتِسَابِ فِعْلٍ لَا عَوْدِ صِفَةٍ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 78) أَتَى بِالْمَاضِي فِي " خَلَقَ "، لِأَنَّ خَلْقَهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَأَتَى بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّهُ كَالْجَوَابِ إِذْ مَنْ صَوَّرَ الْمَنِيَّ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصَيِّرَهُ ذَا هُدًى، وَهُوَ لِلْحَصْرِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَهْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 79) فَأَتَى بِالْمُضَارِعِ لِبَيَانِ تَجَدُّدِ الْإِطْعَامِ وَالسُّقْيَا، وَجَاءَتِ الْوَاوُ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُطْعِمِ وَالسَّاقِي، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ، وَأَتَى بِـ " هُوَ " لِرَفْعِ ذَلِكَ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي {فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 79) لِأَنَّهُ جَوَابٌ، وَلَمْ يَقُلْ: إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. إِذْ يَفُوتُ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ، وَيَذْهَبُ الضَّمِيرُ الْمُعْطِي مَعْنَى الْحَصْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ الْمَوْتَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَدَخَلَتْ " ثُمَّ " لِتَرَاخِي مَا بَيْنَ الْإِمَاتَةِ، وَالْإِحْيَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (الْأَعْرَافِ: 193) لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْحُكْمَ دَائِمًا، وَوَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، فَلَمَّا قَالَ: أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ، أَيْ سُكُوتُكُمْ عَنْهُمْ أَبَدًا، وَدُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّ " صَامِتُونَ " فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِلْفَوَاصِلِ فَهُوَ أَفْصَحُ وَلِلتَّمْكِينِ مِنْ تَطْرِيفِهِ بِحَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَهُوَ لِلطَّبْعِ أَنْسَبُ مِنْ صَمْتِهِمْ، وَصْلًا وَوَقْفًا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ مُوَازِنٌ لِلْآخَرِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: " أَنْتُمْ دَاعُونَ لَهُمْ دَائِمًا أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ". فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَعْكِسُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ الْحَاضِرُ، وَالْمُسْتَقْبَلُ، لَا الْمَاضِي، لِأَنَّ قَبْلَهُ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ} (الْأَعْرَافِ: 193) وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، فَالْحُكْمُ بِهِ قَدْ يُرَجَّحُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 55) وَلَمْ يَقُلْ: أَمْ لَعِبْتَ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْعَبَ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ إِمَّا مُحِقٌّ، وَإِمَّا مُسْتَمِرٌّ عَلَى لَهْوِ الصِّبَا، وَغَيِّ الشَّبَابِ، فَيَكُونُ اللَّعِبُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَصْدُرَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: أَمْ لَعِبْتَ، لَمْ يُعْطِ هَذَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 8) يُرِيدُونَ أَحْدَثْنَا الْإِيمَانَ، وَأَعْرَضْنَا عَنِ الْكُفْرِ، لِيَرُوجَ ذَلِكَ، خِلَافًا مِنْهُمْ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (الْبَقَرَةِ: 9) وَجَاءَتِ الِاسْمِيَّةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 8) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، إِذْ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْطَوِي تَحْتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ نَفْيٌ بِمَا أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (الْمَائِدَةِ: 37) مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِمْ وَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِالْبَاءِ، وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا كَمَا قِيلَ: خَلِيٌّ مِنَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ مُفَرْقَعُ *** وَإِذَا قِيلَ: " أَنَا مُؤْمِنٌ " أَبْلَغُ مَنْ " آمَنَ " وَنَفْيُ الْأَبْلَغِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا دُونَهُ، وَمَا حَقِيقَةُ إِخْرَاجِ ذَوَاتِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْبَيَانِ إِلَّا عَلَى عَيٍّ، أَوْ تَرْوِيجٍ، وَلَكِنْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى طَائِفَةً تَقُولُ: آمَنَّا، وَهِيَ حَالَةَ الْقَوْلِ لَيْسَتْ بِمُؤْمِنَةٍ، بَيَانًا لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْهَا ادِّعَاءً بِحُضُورِ الْإِيمَانِ حَالَةَ الْقَوْلِ، وَالِانْتِظَامِ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، فَإِذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ شَمِلَ الذَّمُّ أَنْ يَكُونُوا آمَنُوا يَوْمًا ثُمَّ تَخَلَّوْا، وَأَنْ يَكُونُوا مَا آمَنُوا قَطُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالتَّعْمِيمِ فَقَطْ، وَأَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَنِ ادَّعَى هَذَا الدَّعْوَى عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَبَيْنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا قَصَدُوا بِهِ التَّمْوِيهَ، بِقَوْلِهِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (الْبَقَرَةِ: 9) وَلَوْ قَالَ: وَمَا آمَنُوا، لَمْ يَفِدْ إِلَّا نَفْيَهُ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي، وَلَمْ يَفِدْ ذَمَّهُمْ، إِنْ كَانُوا آمَنُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، وَهَذَا أَفَادَ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ، وَذَمَّهُمْ بِكُلِّ حَالٍ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ " مُؤْمِنِينَ " أَحْسَنُ مِنْ " آمَنُوا " لِوُجُودِ التَّمْكِينِ بِالْمَدِّ، وَالْوَقْفَ عَقِبَهُ عَلَى حَرْفٍ لَهُ مَوْقِفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الْحِجْرِ: 48) دُونَ يَخْرُجُونَ، فَقِيلَ: مَا سَبَقَ، وَقِيلَ: اسْتَوَى هُنَا يَخْرُجُونَ وَخَارِجِينَ فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَى، وَاخْتِيرَ الِاسْمُ لِخِفَّتِهِ وَأَصَالَتِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 14) لِأَنَّهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَدَّعُونَ حُدُوثَ الْإِيمَانِ وَمَعَ شَيَاطِينِهِمْ يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (الرُّومِ: 9) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ: لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِشَأْنِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ أَتَى بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 15)
تَنْبِيهٌ: [مُضْمَرُ الْفِعْلِ كَمُظْهَرِهِ فِي إِفَادَةِ الْحُدُوثِ] مُضْمَرُ الْفِعْلِ كَمُظْهَرِهِ فِي إِفَادَةِ الْحُدُوثِ، التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَالُوا: إِنَّ سَلَامَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالَ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} (هُودٍ: 69) فَإِنَّ نَصْبَ (سَلَامًا) إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ، أَيْ سَلَّمْنَا سَلَامًا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُؤْذِنَةٌ بِحُدُوثِ التَّسْلِيمِ مِنْهُمْ، إِذِ الْفِعْلُ تَأَخَّرَ عَنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ بِخِلَافِ سَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ فَاقْتَضَى الثُّبُوتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ أَوْلَى بِمَا يَعْرِضُ لَهُ الثُّبُوتُ، فَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النِّسَاءِ: 86). وَذَكَرُوا فِيهِ أَوْجُهًا أُخْرَى تَلِيقُ بِقَاعِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَكَمَالُ الْبَشَرِ تَدْرِيجِيٌّ، فَنَاسَبَ الْفِعْلَ، وَكَمَالُ الْمَلَائِكَةَ مُقَارِنٌ لِوُجُودِهَا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ. قِيلَ: وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُنْشَأَ هُوَ تَسْلِيمُهُمْ، أَمَّا السَّلَامُ الْمَدْعُوُّ بِهِ فَلَيْسَ فِي مَوْضُوعِهِ تَعَرُّضٌ لِتَدَرُّجٍ، وَسَلَامُهُ أَيْضًا مَنْشَأُ فِعْلٍ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّدْرِيجِ غَيْرَ أَنَّ سَلَامَهُ لَمْ يَدُلَّ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ وُقُوعَ إِنْشَائِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا لَشُرِعَ السَّلَامُ بَيْنَنَا بِالنَّصْبِ دُونَ الرَّفْعِ
تَنْبِيهٌ: [حَوْلَ دَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ] هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الثُّبُوتِ، وَالْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَالْحُدُوثِ، هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْمُطَرِّفِ بْنُ عَمِيرَةَ فِي كِتَابِ التَّمْوِيهَاتِ عَلَى كِتَابِ التِّبْيَانِ لِابْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ، قَالَ: هَذَا الرَّأْيُ غَرِيبٌ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ نَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ فِي مَقُولِهِ: أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّجَدُّدِ، فَظَنَّ أَنَّهُ الْفِعْلُ الْقَسِيمُ لِلْأَسْمَاءِ، فَغَلِطَ. ثُمَّ قَوْلُهُ: الِاسْمُ، يُثْبِتُ الْمَعْنَى لِلشَّيْءِ عَجِيبٌ، وَأَكْثَرُ الْأَسْمَاءِ دَلَالَتُهَا عَلَى مَعَانِيهَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، ثُمَّ كَيْفَ يَفْعَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 15- 16) وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِعَيْنِهَا: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 57- 58) وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: طَرِيقَةُ الْعَرَبِ تَدْبِيجُ الْكَلَامِ، وَتَلْوِينُهُ، وَمَجِيءُ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً، وَالِاسْمِيَّةِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَصْدُرُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْخُلَّصِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَاصِلُ بِدُونِ التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا آمَنَّا} (آلِ عِمْرَانَ: 53) وَلَا شَيْءَ بَعْدَ {آمَنَ الرَّسُولُ} (الْبَقَرَةِ: 285) وَقَدْ جَاءَ التَّأْكِيدُ فِي كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 11).
[قَاعِدَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى " مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "]
جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعٍ: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَفِي مَوْضِعٍ: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}. (وَالْأَوَّلُ) جَاءَ فِي تِسْعَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي الرَّحْمَنِ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الْآيَةَ: 29). (وَالثَّانِي) فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ، أَوَّلُهَا فِي يُونُسَ: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (الْآيَةَ: 66). وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا، أَوَّلُهَا فِي الْبَقَرَةِ: {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (الْبَقَرَةِ: 116). وَجَاءَ قَوْلُهُ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا، أَوَّلُهَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَتَأَمَّلْتُ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ فَوَجَدْتُ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ التَّنْصِيصَ عَلَى الْإِفْرَادِ ذَكَرَ الْمَوْصُولَ، وَالظَّرْفَ، أَلَا تَرَى إِلَى الْمَقْصُودِ فِي سُورَةِ يُونُسَ، مِنْ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَى الْمَقْصُودِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي إِحَاطَةِ الْمُلْكِ. وَحَيْثُ قُصِدَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُولَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً إِشَارَةً إِلَى قَصْدِ الْجِنْسِ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى سُورَةِ الرَّحْمَنِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا عُلُوُّ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَشَأْنِهِ، وَكَوْنُهُ مَسْئُولًا، وَلَمْ يَقْصِدْ إِفْرَادَ السَّائِلِينَ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ
قَدْ يَكُونُ نَحْوَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الْأَنْعَامِ: 93) {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} (الزُّمَرِ: 32) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} (السَّجْدَةِ: 22) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 114) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ فَحِينَئِذٍ فَهُوَ خَبَرٌ، وَإِذَا كَانَ خَبَرًا فَتَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا أُخِذَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى طُرُقٍ. (أَحَدُهَا): تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى صِلَتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا، وَإِذَا تَخَصَّصَ بِالصِّلَاتِ زَالَ عَنْهُ التَّنَاقُضُ. (الثَّانِي) أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبْقِ لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ، حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ سَالِكًا طَرِيقَتَهُمْ، وَهَذَا يَئُولُ مَعْنَاهُ إِلَى السَّبْقِ فِي الْمَانِعِيَّةِ، وَالِافْتِرَائِيَّةِ. (الثَّالِثُ) وَادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ أَنَّهُ الصَّوَابُ، إِذِ الْمَقْصُودُ نَفْيُ الْأَظْلَمِيَّةِ لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الْظَالِمِيَّةِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُطْلَقِ، فَلَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ ظَرِيفٌ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ رَجُلٍ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الظَّالِمِيَّةِ لَمْ يَلْزَمِ التَّنَاقُضُ، لِأَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ التَّسْوِيَةِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْأَظْلَمِيِّةِ، وَصَارَ الْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى، وَمِمَّنْ كَذَّبَ، وَنَحْوَهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي تَسَاوِي هَؤُلَاءِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ أَظْلَمُ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَحَدَ أَفْقَهُ مِنْ زَيْدٍ، وَعُمَرَ، وَخَالِدٍ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ، بَلْ نَفَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَفْقَهَ مِنْهُمْ. لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمَهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، وَلَمْ يَفْتَرِ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَقَلُّ ظُلْمًا مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْكُفَّارِ، فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْأَظْلَمِيَّةِ، فَهِيَ كُلُّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِإِفْرَادِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ، وَإِنَّمَا تُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِي الظُّلْمِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ، وَلِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكُوا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، فَتَقُولُ: الْكَافِرُ أَظْلَمُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَنَقُولُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ ظُلْمَ الْكَافِرِ يَزِيدُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَمْ يَدَّعِ الْقَائِلُ نَفْيَ الظَّالِمِيَّةِ، فَيُقِيمَ الشَّيْخُ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهَا، وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ أَنَّ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَثَلًا)، وَالْغَرَضُ أَنَّ الْأَظْلَمِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِغَيْرِ مَا اتَّصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَصَلَ التَّعَارُضُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَطَرِيقُهُ التَّخْصِيصُ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَوْلُ الشَّيْخِ: إِنَّ الْمَعْنَى: " لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ " صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْأَفْرَادَ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا الْأَظْلَمِيَّةُ فِي آيَةٍ، أُثْبِتَتْ لِبَعْضِهَا الْأَظْلَمِيَّةُ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْآيَاتِ الْوَارِدِ فِيهَا ذَلِكَ. وَكَلَامُ الشَّيْخِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ اسْتُفِيدَ لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِهَذَا الْحُكْمِ فِي حُكْمِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ خُصَّتْ بِأُخْرَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ بِالصِّلَاتِ، وَلَا بِالسَّبْقِ. (الرَّابِعُ) طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَالَ: مَتَى قَدَّرْنَا: (لَا أَحَدَ أَظْلَمُ) لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا اسْتِوَاءُ الْكُلِّ فِي الظُّلْمِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْأَظْلَمِيَّةِ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، لَا إِثْبَاتَ الْأَظْلَمِيَّةِ لَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ، وَإِمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَظْلَمُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا لَزِمَ مِنْ جَعْلِ مَدْلُولِهَا إِثْبَاتَ الْأَظْلَمِيَّةِ لِلْمَذْكُورِ حَقِيقَةً، أَوْ نَفْيَهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَهُنَا مَعْنًى ثَالِثٌ، وَهُوَ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى، وَسَالِمٌ عَنِ الِاعْتِرَاضِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ مَعَ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَظِيمٌ فَظِيعٌ، قَصَدْنَا بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ تَخْيِيلَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُ لِامْتِلَاءِ قَلْبِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ بِعَظَمَتِهِ امْتِلَاءً يَمْنَعُهُ مِنْ تَرْجِيحِ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَقُولَ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، وَتَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعَارَةً لَا حَقِيقَةً، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ غَيْرِهِ أَظْلَمَ مِنْهُ إِنْ فُرِضَ. وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّهْوِيلُ، فَيُقَالُ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا إِذَا قُصِدَ إِفْرَاطُ عَظَمَتِهِ؟ وَلَوْ قِيلَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ: أَنْتَ قُلْتَ إِنَّهُ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ لَأَبَى ذَلِكَ، فَلْيَفْهَمْ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْتَظِمُ مَعَهُ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 8) قَالَ صَاحِبُ الْيَاقُوتَةِ: قَالَ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ جَمِيعًا: الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ، كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا، فَمَعْنَاهُ إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَمِثْلُهُ: مَا سَمِعْتُ مِنْكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ مَالًا، وَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدٌ كَانَ الْكَلَامُ مَجْحُودًا جَحْدًا حَقِيقِيًّا، نَحْوَ: مَا زَيْدٌ بِخَارِجٍ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ جَحْدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ أَحَدُهُمَا زَائِدًا كَقَوْلِهِ: مَا مَا قُمْتُ، يُرِيدُ: مَا قُمْتُ. وَمِثْلُهُ: مَا إِنْ قُمْتُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (الْأَحْقَافِ: 26) فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ.
وَلِهَذَا وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ فَلَا يَقُومُ مُرَادِفُهَا فِيمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مَقَامَ الْآخَرِ، فَعَلَى الْمُفَسِّرِ مُرَاعَاةُ مَجَارِيَ الِاسْتِعْمَالَاتِ، وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّرَادُفِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ لِلتَّرْكِيبِ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْإِفْرَادِ، وَلِهَذَا مَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وُقُوعَ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي الْإِفْرَادِ. فَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ، لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَعْلَى مِنَ الْخَوْفِ، وَهِيَ أَشَدُّ الْخَوْفِ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَجَرَةٌ خَشِيَّةٌ، إِذَا كَانَتْ يَابِسَةً، وَذَلِكَ فَوَاتٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْخَوْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ خَوْفَاءُ إِذَا كَانَ بِهَا دَاءٌ، وَذَلِكَ نَقْصٌ وَلَيْسَ بِفَوَاتٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ خُصَّتِ الْخَشْيَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرَّعْدِ: 31). وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الْخَشْيَةَ تَكُونُ مِنْ عِظَمِ الْمَخْشِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْخَاشِي قَوِيًّا، وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَوِّفُ أَمْرًا يَسِيرًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَاءَ، وَالشِّينَ، وَالْيَاءَ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ، قَالُوا: شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ الْكَبِيرِ، وَالْخَيْشُ لِمَا عَظُمَ مِنَ الْكَتَّانِ، وَالْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ، وَانْظُرْ إِلَى الْخَوْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فَإِنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ يَخْشَاهُ كُلُّ أَحَدٍ كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ، وَسُوءُ الْحِسَابِ رُبَّمَا لَا يَخَافُهُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحِسَابِ، وَحَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فَاطِرٍ: 28) وَقَالَ لِمُوسَى: {لَا تَخَفْ} (النَّمْلِ: 10) أَيْ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ مِنْ ضَعْفِ نَفْسِكِ مَا تَخَافُ مِنْهُ بِسَبَبِ فِرْعَوْنَ. فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}؟ قِيلَ: الْخَاشِي مِنَ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ ضَعِيفٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: يَخْشَى رَبَّهُ لِعَظَمَتِهِ، وَيَخَافُ رَبَّهُ أَيْ لِضَعْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ أَقْوِيَاءُ، ذَكَرَ صِفَتَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النَّحْلِ: 50) فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ضُعَفَاءُ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ، لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ ضَعْفِهِمْ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وَلَمَّا ذَكَرَ ضَعْفَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَالْمُرَادُ فَوْقِيَّةٌ بِالْعَظَمَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ، وَالشُّحُّ هُوَ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ، وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْبُخْلِ، وَالضَّنِّ، بِأَنَّ الضَّنِّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِيِّ، وَالْبُخْلُ بِالْهِبَاتِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ بَخِيلٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْبَهُ بِالْعَارِيَّةِ مِنْهُ بِالْهِبَةِ، لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مُلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (التَّكْوِيرِ: 24) وَلَمْ يَقُلْ بِـ (بَخِيلٍ). وَمِنْ ذَلِكَ الْغِبْطَةُ، وَالْمُنَافَسَةُ، كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 26) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ وَأَرَادَ الْغِبْطَةَ، وَهِيَ تَمَنِّي مِثْلِ مَا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْتَمَّ لِنَيْلِ غَيْرِهِ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجِدُّ، وَالتَّشْمِيرُ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ. وَقَرِيبٌ مِنْهَا الْحَسَدُ، وَالْحِقْدُ، فَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّهَا، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ سَعْيٍ فِي إِزَالَتِهَا، كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَيْدَ أَعْنِي الِاسْتِحْقَاقَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَمَنِّيَ زَوَالِهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لَا يَكُونُ حَسَدًا. وَمِنْ ذَلِكَ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ السَّبِيلِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ وَقَعَ فِي الرُّبْعِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا، أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 273) وَلَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الطَّرِيقِ فِيهِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} (النِّسَاءِ: 168، 169) ثُمَّ إِنَّ اسْمَ السَّبِيلِ أَغْلَبُ وُقُوعًا فِي الْخَيْرِ، وَلَا يَكَادُ اسْمُ الطَّرِيقِ يُرَادُ بِهِ الْخَيْرُ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِوَصْفٍ، أَوْ بِإِضَافَةٍ، مِمَّا يُخَلِّصُهُ لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (الْأَحْقَافِ: 30). وَمِنْ ذَلِكَ " جَاءَ " وَ " أَتَى " يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَاضِي، وَ (يَأْتِي) أَخَفُّ مِنْ (يَجِيءُ)، وَكَذَا فِي الْأَمْرِ جِيْئُوا بِمِثْلِهِ، أَثْقَلُ مِنْ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ إِلَّا " يَأْتِي "، وَيَأْتُونَ، وَفِي الْأَمْرِ " فَأْتِ " " فَأْتِنَا "، " فَأْتُوا "، لِأَنَّ إِسْكَانَ الْهَمْزَةِ ثَقِيلٌ لِتَحْرِيكِ حُرُوفِ الْمَدِّ، وَاللِّينِ، تَقُولُ " جِئْ " أَثْقَلُ مِنِ " ائْتِ ". وَأَمَّا فِي الْمَاضِي فَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ (جَاءَ) يُقَالُ فِي الْجَوَاهِرِ، وَالْأَعْيَانِ، وَ (أَتَى) فِي الْمَعَانِي، وَالْأَزْمَانِ، وَفِي مُقَابَلَتِهَا " ذَهَبَ " وَ " مَضَى "، يُقَالُ " ذَهَبَ " فِي الْأَعْيَانِ، وَمَضَى فِي الْأَزْمَانِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: حُكْمُ فُلَانٍ مَاضٍ، وَلَا يُقَالُ: ذَاهِبٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْيَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 17) وَلَمْ يَقُلْ: مَضَى لِأَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِالْمَعَانِي الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى الْحَالِ، وَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا، فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى جَاءَ فِي مَوْضِعِ الْأَعْيَانِ فِي الْمَاضِي، وَأَتَى فِي مَوْضِعِ الْمَعَانِي، وَالْأَزْمَانِ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} (يُوسُفَ: 72) لِأَنَّ الصُّوَاعَ عَيْنٌ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} (الْبَقَرَةِ: 89) لِأَنَّهُ عَيْنٌ، وَقَالَ: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} (الْفَجْرِ: 23) لِأَنَّهَا عَيْنٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} (النَّحْلِ: 61) فَلِأَنَّ الْأَجَلَ كَالْمُشَاهَدِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} (الْحِجْرِ: 63) أَيِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ يُشَاهِدُونَهُ، وَقَالَ: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الْحِجْرِ: 64) حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مَرْئِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} (يُونُسَ: 24) وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} (هُودٍ: 58) فَجُعِلَ الْأَمْرُ آتِيًا وَجَائِيًا. قُلْنَا: هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: " جَاءَ " وَهُمْ مِمَّنْ يَرَى الْأَشْيَاءَ قَالَ: جَاءَ أَيْ عِيَانًا، وَلَمَّا كَانَ الرَّوْعُ لَا يُبْصَرُ، وَلَا يُسْمَعُ، وَلَا يُرَى، قَالَ: " أَتَاهَا "، وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ " جَاءَ " يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، وَيُقَالُ: أَجَاءَهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} (مَرْيَمَ: 23) وَلَمْ يَرِدْ " أَتَاهُ " بِمَعْنَى " ائْتِ " مِنَ الْإِتْيَانِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفْسِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْخَطْفُ وَالتَّخَطُّفُ، لَا يُفَرِّقُ الْأَدِيبُ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَتَقُولُ: خَطِفَ بِالْكَسْرِ لِمَا تَكَرَّرَ، وَيَكُونُ مِنْ شَأْنِ الْخَاطِفِ الْخَطْفُ، وَ " خَطَفَ " بِالْفَتْحِ حَيْثُ يَقَعُ الْخَطْفُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ الْخَطْفُ بِكُلْفَةٍ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ " خَطَفَ " بِالْفَتْحِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ عَلَى تَكَلُّفٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعًا مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ " فَعِلَ " بِالْكَسْرِ لَا يَتَكَرَّرُ كَعَلِمَ، وَسَمِعَ، وَ " فَعِلَ "، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، كَـ " قَتَلَ "، وَضَرَبَ، قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} (الصَّافَّاتِ: 10) فَإِنَّ شُغْلَ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ، وَقَالَ: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الْحَجِّ: 31) لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} (الْأَنْفَالِ: 26) فَإِنَّ النَّاسَ لَا تَخْطِفُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ. وَقَالَ: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (الْعَنْكَبُوتِ: 67). وَقَالَ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 20) لِأَنَّ الْبَرْقَ يُخَافُ مِنْهُ خَطْفُ الْبَصَرِ إِذَا قَوِيَ. وَمِنْ ذَلِكَ " مَدَّ "، وَ " أَمَدَّ "، قَالَ الرَّاغِبُ: أَكْثَرُ مَا جَاءَ الْإِمْدَادُ فِي الْمَحْبُوبِ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} (الطُّورِ: 22) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الْوَاقِعَةِ: 30) وَالْمَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} (مَرْيَمَ: 79). وَمِنْ ذَلِكَ " سَقَى "، وَ " أَسْقَى "، وَقَدْ سَبَقَ. وَمِنْ ذَلِكَ " عَمِلَ " وَ " فَعَلَ "، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَمَلَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ، كُلُّ عَمَلٍ فِعْلٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ، وَلِهَذَا جَعَلَ النُّحَاةُ الْفِعْلَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْمِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ، وَالْعَمَلُ مِنَ الْفِعْلِ مَا كَانَ مَعَ امْتِدَادٍ، لِأَنَّهُ " فَعِلَ " وَبَابُ " فَعِلَ " لِمَا تَكَرَّرَ. وَقَدِ اعْتَبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} (سَبَأٍ: 13) حَيْثُ كَانَ فِعْلُهُمْ بِزَمَانٍ. وَقَالَ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النَّحْلِ: 50) حَيْثُ يَأْتُونَ بِمَا يُؤْمَرُونَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَيَنْقُلُونَ الْمُدُنَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ مِنْ مَكَانِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (يس: 71) {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} (يس: 35) فَإِنَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ، وَالثِّمَارِ، وَالزُّرُوعِ بِامْتِدَادٍ، وَقَالَ: {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (الْفِيلِ: 1) {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} (الْفَجْرِ: 6) {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 45) فَإِنَّهَا إِهْلَاكَاتٌ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ. وَقَالَ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 25) حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُثَابَرَةَ عَلَيْهَا، لَا الْإِتْيَانَ بِهَا مَرَّةً. وَقَالَ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (الْحَجِّ: 77) بِمَعْنَى سَارِعُوا، كَمَا قَالَ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 148) وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 4) أَيْ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، فَهَذَا هُوَ الْفَصَاحَةُ فِي اخْتِيَارِ الْأَحْسَنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَمِنْ ذَلِكَ " الْقُعُودُ " وَ " الْجُلُوسُ "، إِنَّ الْقُعُودَ لَا يَكُونُ مَعَهُ لُبْثَةٌ، وَالْجُلُوسَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَقُولُ: قَوَاعِدُ الْبَيْتِ، وَلَا تَقُولُ: جَوَالِسُهُ، لِأَنَّ مَقْصُودَكَ مَا فِيهِ ثَبَاتٌ، وَالْقَافُ وَالْعَيْنُ وَالدَّالُ كَيْفَ تَقَلَّبَتْ دَلَّتْ عَلَى اللُّبْثِ، وَالْقَعْدَةُ بَقَاءٌ عَلَى حَالَةٍ، وَالدَّقْعَاءُ لِلتُّرَابِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْقَى فِي مَسِيلِ الْمَاءِ، وَلَهُ لُبْثٌ طَوِيلٌ، وَأَمَّا الْجِيمُ وَاللَّامُ وَالسِّينُ فَهِيَ لِلْحَرَكَةِ، مِنْهُ السِّجِلُّ لِلْكِتَابِ يُطْوَى لَهُ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي " قَعَدَ ": يَقْعُدُ بِضَمِّ الْوَسَطِ، وَقَالُوا: " جَلَسَ " يَجْلِسُ بِكَسْرِهِ فَاخْتَارُوا الثَّقِيلَ لِمَا هُوَ أَثْبَتُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} (آلِ عِمْرَانَ: 121) فَإِنَّ الثَّبَاتَ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَقَالَ: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التَّوْبَةِ: 46) أَيْ: لَا زَوَالَ لَكُمْ، وَلَا حَرَكَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ هَذَا، وَقَالَ: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} (الْقَمَرِ: 55) وَلَمْ يَقُلْ: مَجْلِسٌ، إِذْ لَا زَوَالَ عَنْهُ. وَقَالَ: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} (الْمُجَادَلَةِ: 11) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْلَسُ فِيهِ زَمَانًا يَسِيرًا لَيْسَ بِمَقْعَدٍ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْكُمُ التَّفَسُّحُ فَافْسَحُوا، لِأَنَّهُ لَا كُلْفَةَ فِيهِ لِقِصَرِهِ، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: قَعِيدُ الْمُلُوكِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: جَلِيسُهُمْ، لِأَنَّ مُجَالَسَةُ الْمُلُوكِ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّخْفِيفُ، وَالْقَعِيدَةُ تُقَالُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تَلْبَثُ فِي مَكَانِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ التَّمَامُ، وَالْكَمَالُ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (الْمَائِدَةِ: 3) وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَقِيلَ: الْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْأَصْلِ، وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196) أَحْسَنُ مِنْ " تَامَّةٌ "، فَإِنَّ التَّمَامَ مِنَ الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهَا. وَقِيلَ: " تَمَّ " يُشْعِرُ بِحُصُولِ نَقْصٍ قَبْلَهُ، وَكَمُلَ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ كَامِلٌ إِذَا جَمَعَ خِصَالَ الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ تَامٌّ إِذَا كَانَ غَيْرَ نَاقِصِ الطُّولِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْكَمَالُ اسْمٌ لِاجْتِمَاعِ أَبْعَاضِ الْمَوْصُوفِ بِهِ، وَالتَّمَامُ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الْقَافِيَةُ تَمَامُ الْبَيْتِ، وَلَا يَقُولُونَ كَمَالُهُ، وَيَقُولُونَ الْبَيْتُ بِكَمَالِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الضِّيَاءُ، وَالنُّورُ.
فَائِدَةٌ: [عَنِ الْجُوَيْنِيِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْإِتْيَانِ] قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْإِتْيَانِ، مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَفُنُونِهِ الْبَلِيغَةِ وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْبَنَى عَلَيْهِ بَلَاغَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ، يُقَالُ: أَعْطَانِي فَعَطَوْتُ، وَلَا يُقَالُ فِي الْإِيتَاءِ: أَتَانِي، فَأَتَيْتُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: آتَانِي، فَأَخَذْتُ، وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ، لَوْلَاهُ لَمَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ: قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبْتُهُ، فَانْضَرَبَ، أَوْ مَا انْضَرَبَ، وَلَا قَتَلْتُهُ، فَانْقَتَلَ، أَوْ مَا انْقَتَلَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ، وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا، فَالْإِيتَاءُ إِذَنْ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ. قَالَ: وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مُرَاعًى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُلْكِ: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (آلِ عِمْرَانَ: 26) لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُلْكِ أَثْبَتُ مِنَ الْمِلْكِ فِي الْمَالِكِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْمُلْكُ مِنْ يَدِهِ، وَأَمَّا الْمَالِكُ فَيُخْرِجُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (الْبَقَرَةِ: 269) لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِذَا ثَبَتَتْ فِي الْمَحَلِّ دَامَتْ. وَقَالَ: {آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (الْحِجْرِ: 87) لِعِظَمِ الْقُرْآنِ، وَشَأْنِهِ. وَقَالَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الْكَوْثَرِ: 1) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ يَرِدُونَ عَلَى الْحَوْضِ وُرُودَ النَّازِلِ عَلَى الْمَاءِ، وَيَرْتَحِلُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ فِي الْجِنَانِ، وَالْحَوْضُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتِهِ عِنْدَ عَطَشِ الْأَكْبَادِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ، فَقَالَ فِيهِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لِأَنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَقَالَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} (طه: 50) لِأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا لَهُ وُجُودٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ، وَقَالَ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضُّحَى: 5) لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا يُرْضِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُهُ، وَيَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ كُلِّ الرِّضَا إِلَى أَعْظَمِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُ، لَا بَلْ حَالُ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: يُعْطِيكَ رَبُّكَ فِيهِ بِشَارَةٌ. وَقَالَ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} (التَّوْبَةِ: 29) لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ مِنَّا، وَهُمْ لَا يُؤْتُونَ إِيتَاءً عَنْ طِيبِ قَلْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ كُرْهٍ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ لِلزَّكَاةِ بِقُوَّةٍ، لَا يَكُونُ كَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ اللَّطِيفَةِ الْمُوقِفَةِ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ
اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَرِ. فَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ: الْأَوَّلُ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} (الشُّعَرَاءِ: 37- 38) عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِالسَّحَرَةِ إِلَى سَاحِرٍ مَذْكُورٍ. وَقَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (الْمُزَّمِّلِ: 15- 16). وَأَغْرَبَ ابْنُ الْخَشَّابِ فَجَعَلَهَا لِلْجِنْسِ، فَقَالَ: لِأَنَّ مَنْ عَصَى رَسُولًا فَقَدْ عَصَى سَائِرَ الرُّسُلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} (الْبَقَرَةِ: 13) لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ آمَنُوا سُفَهَاءُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (آلِ عِمْرَانَ: 36) أَيِ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْهُ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبَتْ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا لِلْخَارِجِيِّ لِمَعْنَى الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِا: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (آلِ عِمْرَانَ: 36) وَمَعْنَى الْأُنْثَى فِي قَوْلِهِا: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آلِ عِمْرَانَ: 36). الثَّانِي لِمَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ، أَيْ فِي ذِهْنِ مُخَاطِبِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (التَّوْبَةِ: 40) {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الْفَتْحِ: 18) وَإِمَّا حُضُورِيٍّ، نَحْوُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 3) فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ. الثَّالِثُ: الْجِنْسُ، وَهِيَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْخَبَرِ فَيُقْصَرَ جِنْسُ الْمَعْنَى عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، نَحْوُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، أَيِ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ، وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مِنْ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَقْصُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ لَا الْمُبَالَغَةِ، وَيُسَمَّى تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ، نَحْوُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} (الْأَنْعَامِ: 89) وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الْأَنْبِيَاءِ: 30) أَيْ جَعَلْنَا مُبْتَدَأَ كُلِّ حَيٍّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، لَا الشَّامِلَةِ لِأَفْرَادِ الْجِنْسِ، نَحْوُ: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، لَا يُرِيدُونَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هَذَا الْجِنْسُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ بِسَبَبِ عَوَارِضَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ بَابْشَاذَ: إِنَّ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَعْيَانِ، وَتَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَذْهَانِ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْجِنْسِ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي الذِّهْنِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّفْضِيلِ فِي الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَى الذِّهْنِ، لِأَنَّ حِصَصَ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لِاشْتِمَالِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مُطَابَقَةٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى الْكُلِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا الَّتِي إِذَا نُزِعَتْ حَسُنَ أَنْ يَخْلُفَهَا " كُلٌّ "، وَتُفِيدُ مَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ حَقِيقَةً، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى شُمُولِ الْأَفْرَادِ، وَهِيَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ، مَعَ كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْفَرْدِ، نَحْوُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (الْعَصْرِ: 2- 3) وَفِي صِحَّةِ وَصْفِهِ بِالْجَمْعِ، نَحْوُ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} (النُّورِ: 31). قَالَ صَاحِبُ ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ: وَسَوَاءٌ أَكَانَ الشُّمُولُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ: كَالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ: كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ بِزَوَالِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِلنَّوْعِ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ وَصْفِهِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ أَبَدًا، هَذَا كُلُّهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُفْرَدٍ، نَحْوُ: {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (التَّوْبَةِ: 94) {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النِّسَاءِ: 28) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (الْعَصْرِ: 2) خِلَافًا لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يَعُمُّ، وَلَنَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (الْمَائِدَةِ: 32) دَلَالَةٌ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنِ السَّارِقُ عَامًّا فَبِمَاذَا تُقْطَعُ يَدُ كُلِّ سَارِقٍ مِنْ لَدُنْ سُرِقَ رِدَاءُ صَفْوَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ، أَيْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِصِفَةِ السَّرِقَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ كَمَا تُوجَدُ مَعَ الْوَاحِدِ تُوجَدُ مَعَ الْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ سَلَبَتْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَيَصِيرُ لِلْجِنْسِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى الْكَلِمَةِ عُمُومَانِ، أَوْ مَعْنَى الْجَمْعِ بَاقٍ مَعَهَا. عُمُومُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلِ، وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا الثَّانِي. وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا الْعَامِلِينَ، وَيُلْزِمُ الْحَنَفِيَّةُ أَلَّا يَصِحَّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يُخَصِّصَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} (الْحِجْرِ: 30- 31) وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التَّوْبَةِ: 5) إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (التَّوْبَةِ: 29) وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي بَابِ الْعُمُومِ مِنْ بَحْرِ الْأُصُولِ. ثُمَّ الْأَكْثَرُ فِي نَعْتِهَا وَغَيْرِهَا مُوَافَقَةُ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (النِّسَاءِ: 36) وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (اللَّيْلِ: 15 إِلَى 18). وَتَجِيءُ مُوَافِقَةَ مَعْنَى " لَا " لَفْظًا عَلَى قِلَّةٍ، كَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (النُّورِ: 31). وَأَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ التَّنْكِيرُ فِي الْقُرْآنِ : (الْأَوَّلُ): إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ، نَحْوُ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} (الْقَصَصِ: 20). (الثَّانِي): إِرَادَةُ النَّوْعِ، كَقَوْلِهِ: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 49) أَيْ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 7) وَهِيَ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الظَّاهِرَةِ لِكُلِّ مُبْصِرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ، وَأُجْرِيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} (النُّورِ: 45) {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (الْبَقَرَةِ: 96) لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْرِصُوا عَلَى أَصْلِ الْحَيَاةِ حَتَّى تُعْرَفَ، بَلْ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ نَوْعٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ أَقَلَّ شَيْءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَيَاةِ. (الثَّالِثُ): التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الْبَقَرَةِ: 279) أَيْ بِحَرْبٍ وَأَيُّ حَرْبٍ. وَكَقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (الْبَقَرَةِ: 10) أَيْ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (مَرْيَمَ: 45) وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ خِلَافُهُ، وَهَذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَاحِقٌ بِهِ، بَلْ قَالَ: {يَمَسَّكَ} وَذَكَرَ الْخَوْفَ، وَذَكَرَ اسْمَ الرَّحْمَنِ، وَلَمْ يَقُلِ " الْمُنْتَقِمُ "، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ التَّعْظِيمَ. وَقَوْلَهُ: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (الْبَقَرَةِ: 25). فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَمْ يُنْكِرِ الْأَنْهَارَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قُلْتُ: لَا غَرَضَ فِي عِظَمِ الْأَنْهَارِ وَسَعَتِهَا بِخِلَافِ الْجَنَّاتِ. وَمِنْهُ: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الصَّافَّاتِ: 109) {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} (مَرْيَمَ: 15). وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ سَلَامَ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} (مَرْيَمَ: 83) فَإِنَّهُ فِي حَقِّهِ دُعَاءٌ، بِهِ الرَّمْزُ إِلَى مَا اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ، وَكُلُّ اسْمٍ نَادَيْتَهُ بِهِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، نَحْوُ: يَا غَفُورُ، يَا رَحِيمُ. (الرَّابِعُ): التَّكْثِيرُ، نَحْوُ: " إِنَّ لَهُ لَإِبِلًا " وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} (الْأَعْرَافِ: 113) أَيْ أَجْرًا وَافِرًا جَزِيلًا، لِيُقَابِلَ الْمَأْجُورَ عَنْهُ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَى مِثْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَابِلُ الْغَلَبَةَ عَلَيْهِ بِأَجْرٍ، إِلَّا وَهُوَ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْكَثْرَةِ. وَقَدْ أَفَادَ التَّكْثِيرَ، وَالتَّعْظِيمَ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} (فَاطِرٍ: 4) أَيْ رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِوَضًا عَنْ قَوْلِهِ: " فَلَا تَحْزَنَ وَتَصَبَّرْ "، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ وَتَكَاثُرِ الْعَدَدِ. (الْخَامِسُ): التَّحْقِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (عَبَسَ: 18) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} (عَبَسَ: 19). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} (الْجَاثِيَةِ: 32) أَيْ لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ دِينُهُمْ {إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (النَّجْمِ: 23). (السَّادِسُ) التَّقْلِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التَّوْبَةِ: 72) أَيْ رِضْوَانٌ قَلِيلٌ مِنْ بِحَارِ رِضْوَانِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ، لِأَنَّ رِضَا الْمَوْلَى رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (النَّحْلِ: 69) إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ أَصْلُ الشِّفَاءَ فِي جُمْلَةِ صُوَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ. وَعَدَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (الْإِسْرَاءِ: 1) أَيْ بَعْضَ اللَّيْلِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّقْلِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيلِ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَا بِبَعْضِ فَرْدٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ
تَنْبِيهٌ: [فِي أَنَّ أَسْبَابَ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ تُعْرَفُ بِالْقَرَائِنِ] هَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا تُعْلَمُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ تَعَرُّفُ أَسْبَابِ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ كَمَا فُهِمَ التَّعْظِيمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} (الْمُرْسَلَاتِ: 12) مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} (الْمُرْسَلَاتِ: 13- 14). وَكَمَا فُهِمَ التَّحْقِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (عَبَسَ: 18) مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} (عَبَسَ: 19)
إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ، أَوْ نَكِرَتَيْنِ، أَوِ الثَّانِي مَعْرِفَةٌ، وَالْأَوَّلُ نَكِرَةٌ، أَوْ عَكْسَهُ. فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ، وَالثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا، حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي اللَّامِ، أَوِ الْإِضَافَةِ، كَالْعُسْرِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الِانْشِرَاحِ: 5- 6) وَلِذَلِكَ وَرَدَ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. قَالَ التَّنُوخِيُّ: إِنَّمَا كَانَ مَعَ الْعُسْرِ وَاحِدًا، لِأَنَّ اللَّامَ طَبِيعَةٌ، وَالطَّبِيعَةُ لَا ثَانِيَ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْجِنْسَ هِيَ، وَالْكُلِّيُّ لَا يُوصَفُ بِوَحْدَةٍ وَلَا تَعَدُّدٍ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 158). وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. وَقَوْلُهُ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} (غَافِرٍ: 9). وَقَوْلُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} (غَافِرٍ: 16- 17). وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غَافِرٍ: 57). وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} (فُصِّلَتْ: 37). وَقَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ} (الْفَاتِحَةِ: 6- 7). وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً، وَهِيَ مَنْقُوضَةٌ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرَّحْمَنِ: 60) فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ، وَهُمَا غَيْرَانِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَمَلُ، وَالثَّانِي الثَّوَابُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (الْمَائِدَةِ: 45) أَيِ الْقَاتِلَةُ وَالْمَقْتُولَةُ. وَقَوْلِهِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (الْبَقَرَةِ: 178). وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (الْإِنْسَانِ: 1). وَقَوْلِهِ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} (الْإِنْسَانِ: 2). وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} (الْمَائِدَةِ: 48). وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 47). وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (آلِ عِمْرَانَ: 26). فَالْمُلْكُ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللَّهُ لِلْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ مُلْكِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَا وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ، لَكِنْ يَصْدُقُ أَنَّهُ إِيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ، كَمَا صَرَّحَ بِنَحْوِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} (آلِ عِمْرَانَ: 73) فَقَدْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي الْمُنْفَصِلِ الْمُسْتَغْرَقِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْفَضْلِ. وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النِّسَاءِ: 139) وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} (سَبَأٍ: 9) فَالْأَوَّلُ عَامٌّ وَالثَّانِي خَاصٌّ. وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غَافِرٍ: 57). {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (غَافِرٍ: 61). وَقَوْلُهُ: {قَالَ فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} (ص: 84) فَالْأَوَّلُ نُصِبَ عَلَى الْقَسَمِ، وَالثَّانِي نُصِبَ بِـ " أَقُولُ "، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الْإِسْرَاءِ: 105). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يُوسُفَ: 53) فَالْأَوَّلُ مُعَرَّفَةٌ بِالضَّمِيرِ، وَالثَّانِيَةُ عَامَّةٌ، وَالْأُولَى خَاصَّةٌ، فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي. وَكَذَا قَوْلُهُ: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: 26) وَقَوْلُهُ: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 47- 48) وَقَوْلُهُ: {أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} (غَافِرٍ: 36- 37). وَقَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الْفَتْحِ: 23). وَقَوْلُهُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (الْبَقَرَةِ: 185) ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (الْبَقَرَةِ: 185) فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا يَكُونُ الْأَوَّلُ خَاصًّا، وَالثَّانِي عَامًّا مُتَّفِقَانِ بِالْجِنْسِ. وَكَذَلِكَ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النَّجْمِ: 28) وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ إِلْغَاءُ الظَّنِّ مُطْلَقًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (الْقَصَصِ: 25) بَعْدَ قَوْلِهِ: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} (الْقَصَصِ: 26) فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى هِيَ الثَّانِيَةُ، وَأَلَّا تَكُونَ. وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (الْبَقَرَةِ: 282). فَإِنْ كَانَتْ " إِحْدَاهُمَا " الثَّانِيَةُ مَفْعُولًا، فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمَعْرِفَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فَاعِلًا فَهُمَا وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ الْإِعْرَابَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْأَوَّلِ فَاعِلًا، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} (الْأَنْبِيَاءِ: 15). وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} (آلِ عِمْرَانَ: 78) فَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ مَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ كَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 79) وَالْكِتَابُ الثَّانِي التَّوْرَاةُ. وَالثَّالِثُ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَا هُوَ مِنْ شَيْءٍ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ. (الثَّانِي) أَنْ يَكُونَا نَكِرَتَيْنِ، فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا. قَالُوا: وَالْمَعْنَى فِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ، وَالْمَعْرِفَةَ تَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ. وَالْمَشْهُورُ فِي تَمْثِيلِ هَذَا الْقِسْمِ الْيُسْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الِانْشِرَاحِ: 5- 6). وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَنْكِيرَ (يُسْرًا) لِلتَّعْمِيمِ، وَتَعْرِيفَ الْيُسْرِ لِلْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، يُؤَكِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ، أَوِ الْجِنْسُ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ لِيَكُونَ الْيُسْرُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعُسْرِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ هُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى لِتَقْدِيرِهَا فِي النَّفْسِ، وَتَمْكِينِهَا مِنَ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهَا تَكْرِيرٌ صَرِيحٌ لَهَا، وَلَا تَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْيُسْرِ، كَمَا لَا يَدُلُّ قَوْلُنَا: وَإِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا، إِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا، عَلَى أَنَّ مَعَهُ كِتَابَيْنِ، فَالْأَفْصَحُ أَنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} (الرُّومِ: 54) الْآيَةَ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورِ غَيْرُ الْآخَرِ، فَالضَّعْفُ الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ، وَالثَّانِي الضَّعْفُ الْمَوْجُودُ فِي الطِّفْلِ وَالْجَنِينِ، وَالثَّالِثُ فِي الشَّيْخُوخَةِ، وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ حَرَكَةً وَهِدَايَةً لِاسْتِدْعَاءِ اللَّبَنِ، وَالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبُكَاءِ، وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سَبَأٍ: 12): الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ شَهْرٍ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ، وَزَمَنِ الرَّوَاحِ، وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَأْتِيَ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ فِي نَحْوِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، هَلْ يَكُونُ أَمْرَيْنِ بِمَأْمُورَيْنِ، وَالثَّانِي تَأْسِيسٌ، أَوْ لَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. وَقَدْ نَقَضُوا هَذَا الْقِسْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (الزُّخْرُفِ: 84) فَإِنَّ فِيهِ نَكِرَتَيْنِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ وَإِنَاطَةِ أَمْرٍ زَائِدٍ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُقْصَدِ التَّكْرِيرُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَصْدِ التَّكْرِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ} (الزُّخْرُفِ: 82). وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ إِلَهًا بِمَعْنَى مَعْبُودٍ، وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الصِّفَةِ، فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ ضَارِبُ عَمْرٍو، ضَارِبُ بَكْرٍ، لَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ الْمَضْرُوبَانِ لَا الضَّارِبَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (الْبَقَرَةِ: 117) الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ، وَالثَّانِي مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُقُوعِهِمَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} (الْبَقَرَةِ: 90) وَمِنْهَا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} (الْمُلْكِ: 8- 9). وَمِنْهَا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} (الْأَنْعَامِ: 37). (الثَّالِثُ) أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً، وَالثَّانِي مَعْرِفَةً، فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (الْمُزَّمِّلِ: 15- 16). وَقَوْلِهِ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} (النُّورِ: 35). وَقَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ} (الشُّورَى: 41- 42). وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (الشُّورَى: 52- 53) وَهَذَا مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِهِ: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ كُلَّ رِزْقٍ (الْعَنْكَبُوتِ: 17). وَقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النِّسَاءِ: 128)، فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ كُلِّ صُلْحٍ، فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي، وَلَيْسَ بِجِنْسِهِ. وَكَذَلِكَ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (يُونُسَ: 36) وَقَوْلُهُ: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هُودٍ: 3) الْفَضْلُ الْأَوَّلُ الْعَمَلُ، وَالثَّانِي الثَّوَابُ. وَكَذَلِكَ: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هُودٍ: 52). وَكَذَلِكَ: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الْفَتْحِ: 4). وَكَذَلِكَ {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (النَّحْلِ: 88) تَعْرِيفُهُ أَنَّ الْمَزِيدَ غَيْرُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} (إِبْرَاهِيمَ: 1) إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ} (الْأَنْعَامِ: 157). (الرَّابِعُ): عَكْسُهُ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِنِ، فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التَّغَايُرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الرُّومِ: 55). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا} (النِّسَاءِ: 153). وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى} (غَافِرٍ: 53- 54) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْهُدَى جَمِيعُ مَا آتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَالْهُدَى وَالْإِرْشَادِ. وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (الزُّمَرِ: 27- 28) وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (الْأَحْقَافِ: 29). إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} (الْأَحْقَافِ: 30). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {بِالْمَعْرُوفِ} (الْبَقَرَةِ: 178). وَقَوْلُهُ أَيْضًا: {مِنْ مَعْرُوفٍ} (الْبَقَرَةِ: 240) فَهُوَ مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مُعْرِفَةً لِأَنَّ {مِنْ مَعْرُوفٍ} وَإِنْ كَانَ فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ {بِالْمَعْرُوفِ} فَهُوَ فِي الْإِنْزَالِ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ.
|